فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}
فيه وجهان:
أحدهما: يستمعون الكذب عليك فلا ينكرونه.
الثاني: يستمعون الحق منك فلا يَعُونَه.
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن من لا يعي ما يسمع فهو كمن لا يعقل.
الثاني: معناه أنه كما لا يعي من لا يسمع كذلك لا يفهم من لا يعقل.
والألف التي في قوله تعالى: {أَفَأَنتَ} لفظها الاستفهام ومعناها معنى النفي. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} يريد بظواهرهم، وقلوبُهم لا تَعِي شيئًا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن؛ ولهذا قال: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي لا تسمع؛ فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمّه الله عن سماع الهدى.
وكذا المعنى في: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أخبر تعالى أن أحدًا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته.
وهذا وما كان مثلَه يردّ على القدرية قولهم؛ كما تقدّم في غير موضع.
وقال: {يستمعون} على معنى: {مَن} و: {ينظر} على اللفظ؛ والمراد تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي كما لا تقدر أن تسمع من سُلب السمع ولا تقدر أن تخلُق للأعمى بصرًا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألاّ يؤمنوا.
ومعنى: {يَنْظُرُ إلَيْكَ} أي يديم النظر إليك؛ كما قال: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19]. قيل: إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}
قال ابن عباس: نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين. وقال ابن الأنباري: في قوم من اليهود انتهى.
وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله: {ومن الشياطين من يغصون له} والمعنى: من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله: {أفأنت تسمع الصم} أي هم، وإن استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول، ولاسيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل، فحري بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلًا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء.
وأعاد في قوله: {ومنهم من ينظر إليك} الضمير مفردًا مذكرًا على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب.
والمعنى: أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة.
وقوله: أفأنت: تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإنّ الهداية إنما هي لله.
قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولًا على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى.
وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولًا فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردًا مذكرًا، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو.
والمقصود من الآيتين: إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج ألبتة، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء.
وقال الشاعر:
وإذا خفيت على المعني فعاذر ** أن لا تراءى مقلة عمياء

.اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بيانٌ لكونهم مطبوعًا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم، وإنما جمع الضميرُ الراجعُ إلى كلمة مَنْ رعايةً لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظةً على ظاهر اللفظِ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة، أي ومنهم ناسٌ يستمعون إليك عند قراءتِك القرآنَ وتعليمِك الشرائعَ: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} همزةُ الاستفهامِ إنكاريةٌ والفاءُ عاطفةٌ وليس الجمعُ بينهما لترتيب إنكارِ الإسماعِ كما هو رأيُ سيبوبهِ والجمهور على أن يجعل تقديمُ الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارةَ كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتُّبِه عليه حسبما هو المعتادُ لكن لا بطريق العطفِ على الفعل المذكورِ لأدائه إلى اختلال المعنى، لأنه إما صلةٌ أو صفةٌ وأيًا ما كان فالعطفُ عليه يستدعي دخولَ المعطوفِ في حيزه وتوجّهَ الإنكارِ إليه من تلك الحيثية ولا ريب في فسادة، بل بطريق العطفِ على مقدر مفهومٍ من فحوى النظمِ، كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكارًا لاستماعهم فإنه أمر محقق بل إنكارًا لوقوع الاستماعِ عقيبَ ذلك وترتبِه عليه حسب العادةِ الكليةِ بل نفيًا لإمكانه أيضًا كما ينبئ عنه وضع الصمِّ موضعَ ضميرِهم ووصفِهم بعدم العقلِ بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو انضم إلى صممهم عدمُ عقولِهم لأن الأصمَّ العاقلَ ربما تفرس إذا وصل إلى صِماخه صوتٌ وأما إذا اجتمع فقدانُ السمع فقد تم الأمر: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاين دلائلَ نبوّتك الواضحة: {أَفَأَنتَ} أي أعقيبَ ذلك أنت تهديهم وإنما قيل: {تَهْدِى العمى} تربيةً لإنكار هدايتِهم وإبرازًا لوقوعها في معرض الاستحالةِ وقد أكد ذلك حيث قيل: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي ولو انضم إلى عدم البصَر عدمُ البصيرة فإن المقصودَ من الإبصارِ الاعتبارُ والاستبصارُ، والعمدةُ في ذلك هي البصيرةُ ولذلك يحدس الأعمى المستبصرُ ويتفطن لما لا يدركه البصيرُ الأحمقُ فحيث اجتمع فيهم الحمَقُ والعمى فقد انسد عليهم بابُ الهدى، وجوابُ لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله تعالى: {تُسْمِعُ الصم} و: {تَهْدِى العمى} عليه وكلٌّ منهما معطوفةٌ على جملة مقدرةٍ مقابلةٍ لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعلِ السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون، أفأنت تهدي العميَ لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون، أي على كل حال مفروضٍ، وقد حذفت الأولى في الباب حذفًا مطردًا لدِلالة الثانية عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيءَ إذا تحقق عند تحققِ المانعِ أو المانع القويِّ فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أو عند تحققِ المانعِ الضعيفِ أولى، وعلى هذه النُكتةِ يدور ما في لو وأن الوصلتين من التأكيد وقد مر الكلام في قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ} ونظائرِه مرارًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بيان لكونهم مطبوعًا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم: {وَمِنْ} مبتدأ خبره مقدم عليه، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية، والمعنى ومن المكذبين الذين أو اناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} أي تقدر على اسماعهم: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوى وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الألف والتقليد، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وادراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق، وتقديم المسند إليه في: {أَفَأَنتَ} للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص.
ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي لله صلى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل: أنت لا تقدر على اسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي، وجعل إنكار الاسماع متفرعًا على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير أليه، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم.
وقيل: إنها في موضعها، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الاسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الاسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبئ عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل، وجواب: {لَوْ} محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض ويقال للو هذه وصلية وذلك أمر مشهور.
واستشكل الإتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتًا كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس.
وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفى بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل.
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى: {أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى} تقدر على هدايتهم: {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي وان انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق، فلا يقال: كيف أثبت لهم النظر والابصار أولا ونفى عنهم ثانيًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}
لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين: من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه؛ كمُل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: قِسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته.
وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين؛ فإن سماع كلام النبي وإرشادِه ينير عقول القابلين للهداية، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبي أو رؤية هديه مؤذنًا ببلوغهم الغاية في الضلالة مَيئوسًا من نفوذ الحق إليهم، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها، فما عُدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله: {وَمِنْهُمْ} في الموضعين، فطويت جملة: ولا ينتفعون أو نحوها لِلإيجاز بدلالة التقسيم.
وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر.